التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العابرون للحدود


نصادف في الحياة أشخاص لديهم القدرة على أسر قلوبنا سريعا. لدرجة أن بعضهم يشعرك وكأنك كنت تعرفه من فترة طويلة. إنهم بارعون في النفوذ إلى دائرة إهتمامنا وكسب ثقتنا بدون عناء يذكر. شخصيا اسمي هذه الفئة من الناس العابرون للحدود؛ بسبب القدرة التي يمتلكونها في تخطي حدود قلوبنا بدون جوازات عبور رسمية.
"من ثمارها تعرف الأشجار" كما جاء في الإنجيل. وكذلك هم العابرون للحدود نعرفهم من السمات والصفات التي يتمتعون بها. ربما تكون السمة الأهم هي قدرتهم على إشعارك بأهميتك عندهم، ومن قرأ في سيرة سيد العابرين محمد عليه الصلاة والسلام يدرك هذه السمة في شخصيته، حتى ظن عمرو بن العاص أنه أحب رجل إلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم من كل صحابته. كما يتمتع  العابرون للحدود بمحبة الأخرين لهم سريعا، وكسب ثقتهم بعد فترة وجيزة من اللقاء بهم. أضف إلى ذلك كله رغبتهم في إكتشاف قدرات ومواهب من حولهم، حتى يبرزوها للآخرين متى ما وجدوا الفرصة مواتية. لذلك نجد أهم الإنجازات والأحداث الرئعة التي تحصل لنا، عادة ما يكون سببها العلاقات والتفاعل مع هذا من البشر.
من يتقن قواعد اللعبة الرئيسية في أي مجال يستطيع أن يضمن نسبة الفوز بشكل كبير. وبحسب تجربتي الشخصية والقراءات المختلفة فى مجال التواصل البشري فإني أحب أن أذكر أربع أمور يمكن أن نطلق عليها قواعد العبور الأساسية فبعضها مباشر وبعضها غير مباشر. الإ ان الراغب في تنمية ذاته وقدراته في التواصل، فلا بد أن يهتم بتنمية مهارات التواصل المختلفة ويصقلها بالممارسة الدائمة حتى تصبح جزء من شخصية.
قاعدة العبور الأولى هي الثقة. في إعتقادي أن الثقة هي عمود العلاقات الناجحة والإتصال الفعال مع الآخرين. وفي حديثنا عن الثقة فإننا نتحدث في البداية عن الثقة في النفس. حيث إن فاقد الشيء في الأساس لا يعطيه، وكذلك هو فاقد الثقة لا يستطيع كسب قلوب الآخرين سريعا لأنه لم يكسب ثقة نفسه أولا. فالشيء الوحيد الذي يستطيع أن يمنعنا من القيام بكل شيء هو الخوف وإخوانه (الخجل، التردد، الشك، عدم الشعور بالكفاءة). كم عدد الفرص التي ضيعناها في ما سبق، من التعرف وبناء علاقات مهمة مع أشخاص نعرف أننا لو كسبنا صداقتهم لكان لهم أبعد الأثر في حياتنا. إن مفتاح الأمور في الحياة هو أن نبني ذلك الشعور باليقين والثقة الذي يسمح لنا بالتقدم بشكل سريع نحو تحقيق ما نطمح له. الجانب الآخر في الثقة هو كسب ثقة الأخرين وكسر الحواجز. ولو تأملنا في مبدأ العلاقات والصداقات بين البشر، نجده قائما على الثقة في الآخر؛ بل هذا يشمل العلاقة بين المؤسسات والدول أيضا. فتنمية قدرتنا في خلق الثقة مع الآخرين يساعدنا بشكل كبير في توطيد العلاقات بشكل فوري ودائم.
القاعدة الثانية للعبور هي النفوذ لدائرة الإهتمامات. لا يوجد أسهل طريقة لكسب قلب أي شخص سوى الحديث في مجالات إهتماماته وإبداعاته والأشياء التي يحسنها عن الآخرين من حوله. لذلك إذا كنت تسعى لبناء علاقة مهما كان هدفها، فالشيء الأول الذي ينبغي عليك القيام به هو معرفة إهتمامات الطرف الآخر. لو أستحضر كل واحد فينا بشكل سريع الصداقات والعلاقات التي يمتلكها حاليا سواء كانت مع فرد أو مجموعة، نجد أساسها وجود إهتمامات مشتركة. الجانب الأخر المهم في النفوذ لدائرة الإهتمامات هي إشعار الآخرين بأهميتهم وقيمتهم. لا يغرك عمر الإنسان حتى لو جاوز التسعين؛ فإنه يتوق لمن يهتم به ويشعره بقيمته، مثل الطفل الصغير لكنه يستخدم طرقا غير مباشرة في ذلك. لو صادفت عظيما يحترمه الناس، فأعرف أنه يشعرهم في حضرته بأنهم عظماء ومهمين ولهم قيمتهم. أن القائد أو المسؤول أو المعلم أو الأب أو الأم الذين لا يشعرون من هم تحت وصايتهم بأنهم على قدر عالي من الأهمية، فلا يستغربوا عندما لا يحصولون على الولاء او التقدير والإحترام منهم. قل لي عن أي دولة كيف تحترم وتقدر شبابها أقل لك ما هو مستقبلها.
قاعدة العبور الثالثة هي تشغيل معامل الذكاء الإجتماعي لديك. لقد حُطم المفهوم القديم للذكاء المحصور في الجانب العقلي واللغوي فقط. وحسب نظرية الذكاءات المتعددة لجاردنر التي شملت سبع ذكاءات من بينها الذكاء الإجتماعي. وعززتها بشكل مفصل وكبير نظرية الذكاء العاطفي لجولمان والتي تركز على الذكاء الإجتماعي بشكل أساسي. حتى جاردنر نفسه يقول "لو كنت مظطرا لأن أصوت لصالح احد الذكاءات لصوت لصالح الذكاء الإجتماعي" لما له من أثر فعال في نجاح الأفراد على الصعيد الفردي والمجتمعي. ويعرف بأنه: "القدرة على ملاحظة الفروق بين الآخرين، خاصة فيما يتعلق بمزاجهم وحساسيتهم ودوافعهم ونواياهم ثم التعامل وفق هذه الفروق". ومعظم الدراسات تشير اليوم أن الأشخاص الذين يحتلون المناصب العليا هم الذين يمتكون القدرة على التعامل والتأثير في الأخرين بشكل كبير. إن القدرة على فهم مشاعر الآخرين والتعاطف مهم، من ثم التعامل بناء على مشاعرهم هي أحد أهم المهارات التي ينبغي أن ننميها حتى نضاعف من ذكاءنا الإجتماعي بشكل خاص، ونطور خاصية العبور السريع بين الحدود.
قاعدة العبور الرابعة هي البحث عن القدوات والنماذج في مهارات العبور والعيش والإحتكاك بهم. دائما ما أقول لزملائي أنه مهما حاولت أن تقرأ أو تتدرب على مهارة معينه الإ أنه لا يغنيك من الإحتكاك والعمل مع الناس المتميزين في المهارة التي ترغب بإكتسابها. هناك دقائق نفسية ومهارات لا شعورية لا تكتسب الإ بالمعايشة لفترات كافية. دائما ما نجد أن أفضل القادة هم من تتلمذوا على أيدي قاده في مجال العمل لفترات طويلة. الجانب المهم الآخر في هذه النقطة هي السرعة في إكتساب المهارة. حيث أن وجود القدوات في حياتنا يوفر علينا فترات من التجربة والخطأ والتعرف على أهم التجارب. فمهمتك الآن هي ان تبحث عن هؤولاء القدوات في مكان العمل أو الدراسة أو في حياتك الإجتماعية حتى تتعلم منهم وتتلمذ على يديهم.
قواعد العبور إلى قلوب الآخرين كثيرة ومختلفة ومتنوعه في نفس الوقت. وقد لا تجد طبيعة تضاريس كل الحدود متشابهة، فبعضها سهل العبور وبعضها يحتاج إلى وقت أطول. لكن الشيء الجميل في هذه الرحلة أنها ممتعة لدرجة لا توصف. إنها تجربة ثرية أدعوك أن تجربها بكل شغف، ليكون لديك دليك الخاص، وخبرتك التي ربما ستشاركنا بها في يوم ما.

الآن..مزق كل جوازاتك المزيفة، وابداء الرحلة بطريقة مختلفة....

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا تقرأ كتابا أكثر من مرة

اقرأ كتابا جيدا ثلاث مرات، انفع لك من أن تقرأ ثلاثة كتب جديدة" العقاد ربما يخطر ببالك لماذا نحن بحاجة لقراءة بعض الكتب أكثر من مرة. بينما في إمكاننا قراءة كتب مختلفة في الوقت الذي نصرفة لقراءة كتاب مرة أخرى. في بعض الأحيان عندما أخبر زملائي بأني قرأت هذا الكتاب أكثر من مرة، يثير هذا الشيء لديهم بعض الفضول والتساؤل لماذا أعيد قراءة كتب قرأتها في الأساس. هناك مجموعة من الأسباب التي من أجلها يجب أن نعيد قراءة بعض الكتب. ونجد هذه العادة عند العلماء والمتخصصين وهواة القراءة كثيرا. وهي من الأمور التي ينبغي أن نمارسها؛ حتى نحصل على الفوائد التي نرجوها من بعض الكتب. والمثل الأمريكي يقول " التكرار أم المهارة". السبب الأول الذي يدفعنا لتكرار قراءة الكتب هو إسترجاع المعلومات. عادة في القراءة الأولى لا نستطيع الإحتفاظ بكم كبير من المعلومات، والأفكار التي مرت أمامنا. وأيضا لا نكون دائما في حالة تركيز ثابته في كل مرة نقرأ فيها؛ لذلك تفوت القارئ كثير من الأفكار التى لم ينتبه لها بشكل كافي. وحسب ما يذكر المختصين في مجال التعلم نحن نتذكر 10% فقط مما نقرأ. فقراءة الكت

ماذا غيرت فيك القراءة؟!

  في الرسالة التي وجهها الروائي العالمي باولو كولو لمحمد بن راشد شاكرا له إطلاقه تحدي القراءة العربي يقول في أحد مقاطعها " إن مُحاولة اكتشاف الذات هي من أصعب المهام وأكثرها متعة، هي المغامرة الوحيدة التي تُعطي لحياتنا قيمة، ولإنجازها هناك طريقتان: القراءة وخوض التجارب. وربما لا يكون أحدنا محظوظاً ليخوض تجارب كثيرة في حياته، إلا أن معظم الناس اليوم يستطيعون أن يقرأوا". لطالما شكلت القراءة لكثير من الأشخاص حجر الزاوية في حياتهم للإنطلاق إلى مسارات مختلفة، والإبحار لمناطق كانت مجهولة بالنسبة لهم.   قبل فترة كنت أتصفح موقع التدوين المصغر توتير، فوقعت على تغريدة في حساب "نزهة قارئ" -الذي يسعى لتعزيز ثقافة القراءة في المجتمع- يطرح فيها تسؤولا للمتابعين في حسابه وهو ] ماذا غيرت فيك القراءة؟ [ وبفضول كبير تتبعت إجابات المتابعين وهم من فئة الشباب. كانت إجابات رائعة ومحفزة جدا، تلمس بها حجم الأثر الذي تتركه القراءة في الأفراد الذي يتقنون منادمتها. نقلت لكم بالأسفل مجموعة من التعليقات التي شارك بها بعض المتابعين. لم أضع ترتيبا معينا للعبارات حتى أسمح لكم بالتواصل

الحصَّالة العجيبة

مشهدان يرتسمان في الذاكرة عندما أتذكر المال في مرحلة الطفولة والتي أعتقد أنها مرت على الكثيرين منا. المشهد الأول عندما قررت العائلة إدخال الحصَّالة للبيت؛ فأصبحت جزء من نظامنا في إدخار مبلغ صغير كل يوم مما علمنا قاعدة مالية مهمة وهي "أن تنفق أقل ممكا تكسب". المشهد الثاني هو عندما كانت تطلب منا إدارة المدرسة المساهمة بمبلغ سنوي للإستثمار في مقصف المدرسة، وفي نهاية كل عام نجني أرباحا مالية بقدر المساهمة التي دفعناها. وهذا علّمنا الأثر السحري لإستثمار المال في مكان آمن حتى تضمن نماء المال بشكل مستمر. لكن يبدو أن الكثرين منا نسوا هذه الدروس غير المباشرة في التعامل مع المال. وأصبحت محافظنا المالية عرضة للإستهلاك غير المدروس؛ حيث يجد الكثير من الأفراد أنفسهم في نهاية كل شهر أمام ضائقة مالية قبل نزول المرتب الشهري، أو المنحة المالية التي نحصل عليها من المكان الذي ندرس به بالنسبة للطلاب.     هناك مجموعة من العوامل التي تؤثر على الطريقة التي نتعامل بها مع المال، والتي تشكلت عبر مراحل نمونا. العامل الرئيسي هو مخططنا المالي وهو عبارة عن القناعات والقيم والمشاعر التي نرسمها